الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.فَصْلٌ: الْقَوْلُ فِي صِفَةِ الْحَجَرِ فِي الرَّجْمِ: فَأَمَّا الْحَجَرُ الَّذِي يُرْجَمُ بِهِ فَالِاخْتِيَارُ أَنْ يَكُونَ مَلْءَ الْكَفِّ، وَلَا يَكُونُ أَكْبَرَ مِنْهُ كَالصَّخْرَةِ فَتَقْتُلُهُ، وَلَا يَكُونُ أَخَفَّ مِنْهُ كَالْحَصَاةِ فَيَطُولُ عَلَيْهِ. وَيَكُونُ مَوْقِفُ الرَّامِي مِنْهُ بِحَيْثُ لَا يَبْعُدُ عَلَيْهِ فَيُخْطِئُهُ، وَلَا يَدْنُو مِنْهُ فَيُؤْلِمُهُ، فَإِنْ هَرَبَ عِنْدَ مَسِّ الْأَحْجَارِ اتُّبِعَ إِنْ رُجِمَ بِالْبَيِّنَةِ، وَلَا يُتْبَعُ إِنْ رُجِمَ بِالْإِقْرَارِ: لِأَنَّ مَاعِزًا هَرَبَ حِينَ أَخَذَتْهُ الْأَحْجَارُ فَاتُّبِعَ، فَقِيلَ: إِنَّ عُمَرَ أَتْبَعَهُ فَرَمَاهُ بَلَحْيِ جَمَلٍ فَقَتَلَهُ، وَقِيلَ: بَلْ لَقِيَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُنَيْسٍ وَقَدْ أَعْجَزَ أَصْحَابَهُ فَرَمَاهُ بِوَظِيفِ بَعِيرٍ فَقَتَلَهُ، ثُمَّ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ فَقَالَ: هَلَّا تَرَكْتُمُوهُ، لَقَدْ تَابَ تَوْبَةً لَوْ تَابَهَا فِئَامٌ مِنَ النَّاسِ قُبِلَتْ مِنْهُمْ وَلِأَنَّ رَجْمَهُ بِإِقْرَارٍ غَيْرِ مُتَحَتِّمٍ: لِأَنَّهُ يَسْقُطُ بِالرُّجُوعِ وَهَرَبُهُ كَالرُّجُوعِ. وَالْأَوْلَى بِمَنْ حَضَرَ رَجْمُهُ أَنْ يَكُونَ عَوْنًا فِيهِ إِنْ رَجَمَ بِالْبَيِّنَةِ، وَمُمْسِكًا عَنْهُ إِنْ رَجَمَ بِالْإِقْرَارِ: لِمَا ذَكَرْنَاهُ. وَجَمِيعُ بَدَنِهِ مَحَلٌّ لِلرَّجْمِ فِي الْمَقَاتِلِ وَغَيْرِ الْمَقَاتِلِ، وَلَكِنْ يُخْتَارُ أَنْ يُتَوَقَّى الْوَجْهُ وَحْدَهُ: لِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاتِّقَاءِ الْوَجْهِ.مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَإِنْ لَمْ يُحْصَنْ جُلِدَ مِائَةً وَغُرِّبَ عَامًا عَنْ بَلَدِهِ بِالسُّنَّةِ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ حَدَّ الْبِكْرِ الْجَلْدُ وَالتَّغْرِيبُ، وَسُمِّيَ الْحَدُّ جَلْدًا لِوُصُولِهِ إِلَى الْجَلْدِ. وَلَهُ حَالَتَانِ حد الزاني غير المحصن: حُرٌّ، وَعَبْدٌ: فَإِنْ كَانَ حُرًّا جُلِدَ مِائَةً ثُمَّ غُرِّبَ بَعْدِ الْجَلْدِ سَنَةً. فَأَمَّا الْجَلْدُ فَهُوَ بِسَوْطٍ مُعْتَدِلٍ لَا جَدِيدٍ وَلَا خَلِقٍ، وَيُفَرَّقُ الضَّرْبُ فِي جَمِيعِ الْبَدَنِ: لِيَأْخُذَ كُلُّ عُضْوٍ حَظَّهُ مِنَ الْأَلَمِ كَمَا أَخَذَ حَظَّهُ مِنَ اللَّذَّةِ، إِلَّا عُضْوَيْنِ يَكُفُّ عَنْ ضَرْبِهِمَا وَيُؤْمَرُ بِاتِّقَائِهِمَا:أَحَدُهُمَا: الْوَجْهُ: لِرِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِذَا ضَرَبْتُمْ فَاتَّقُوا الْوَجْهَ.وَالثَّانِي: الْفَرْجُ: لِأَنَّ الْمَذَاكِيرَ قَاتِلَةٌ. فَأَمَّا الرَّأْسُ فَلَا يَلْزَمُ اتِّقَاؤُهُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَلْزَمُ أَنْ يُتَّقَى وَهُوَ أَشْبَهُ: لِأَنَّ الضَّرْبَ عَلَيْهِ أَخْوَفُ. وَأَمَّا التَّغْرِيبُ فَيَشْتَمِلُ عَلَى زَمَانٍ وَمَكَانٍ، فَأَمَّا الزَّمَانُ فَقَدْ قَدَّرَهُ الشَّرْعُ بِسَنَةٍ تَجْمَعُ اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا بِالْأَهِلَّةِ. وَأَمَّا الْمَكَانُ فَفِيهِ وَجْهَان:أحدهما: وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: إِلَى مَسَافَةِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فَصَاعِدًا: لِأَنَّهُ حَدُّ السَّفَرِ الَّذِي يُقْصَرُ فِيهِ وَيُفْطَرُ، وَسَوَاءٌ كَانَ لَهُ فِي الْبَلَدِ الَّذِي غُرِّبَ إِلَيْهِ أَهْلٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ.وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّهُ يُغَرَّبُ إِلَى حَيْثُ يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْغُرْبَةِ، وَتَلْحَقُهُ فِي الْمُقَامِ بِهِ مَشَقَّةٌ وَوَحْشَةٌ، سَوَاءٌ قَصَرَ فِي مِثْلِهِ الصَّلَاةَ أَوْ لَمْ تُقْصَرْ: لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِتَغْرِيبِهِ خُرُوجُهُ عَنْ أُنْسِهِ بِالْأَهْلِ وَالْوَطَنِ إِلَى وَحْشَةِ الْغُرْبَةِ وَالِانْفِرَادِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُحْبَسَ فِي تَغْرِيبِهِ، إِلَّا أَنْ يَتَعَرَّضَ لِلزِّنَا وَإِفْسَادِ النَّاسِ، فَيُحْبَسُ كَفًّا عَنِ الْفَسَادِ تَعْزِيرًا مُسْتَجَدًّا. وَمَئُونَتُهُ فِي غُرْبَتِهِ فِي بَيْتِ الْمَالِ مِنْ خُمْسِ الْخُمْسِ كَأُجْرَةِ الْجَلَّادِ، فَإِنْ أَعْوَزَ بَيْتَ الْمَالِ كَانَتْ فِي مَالِهِ كَمَا تَكُونُ فِيهِ أُجْرَةُ مُسْتَوْفِي الْحَدِّ مِنْهُ عِنْدَ الْإِعْوَازِ. فَأَمَّا نَفَقَتُهُ فِي زَمَانِ التَّغْرِيبِ فَعَلَى نَفْسِهِ وَمِنْ كَسْبِهِ، وَلَا يُمْنَعُ مِنَ الِاكْتِسَابِ، وَلَا أَنْ يُسَافِرَ مَعَهُ بِمَالٍ يَتَّجَرُ بِهِ أَوْ يُنْفِقُهُ. فَإِنْ أَعْوَزَهُ الْكَسْبُ فِي سَفَرِهِ كَانَ كَسَائِرِ الْفُقَرَاءِ.فصل: فَإِنْ رَأَى الْإِمَامُ أَنْ يَزِيدَ فِي مَسَافَةِ تَغْرِيبِهِ الزاني غير المحصن عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ جَازَ، فَقَدَ غَرَّبَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى الشَّامِ، وَغَرَّبَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى مِصْرَ. وَإِنْ رَأَى أَنْ يَزِيدَ فِي زَمَانِ تَغْرِيبِهِ عَلَى السَّنَةِ الزاني غير المحصن لَمْ يَجُزْ: لِأَنَّ السَّنَةَ نَصٌّ، وَالْمَسَافَةَ اجْتِهَادٌ. وَفِي أَوَّلِ السَّنَةِ فِي تَغْرِيبِهِ وَجْهَان:أحدهما: مِنْ وَقْتِ إِخْرَاجِهِ مِنْ بَلَدِهِ: لِأَنَّهُ أَوَّلُ سَفَرِهِ.وَالْوَجْهُ الثَّانِي: بَعْدَ حُصُولِهِ فِي مَكَانِ التَّغْرِيبِ، وَفِيهِ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ:أَحَدُهُمَا: بَعْدَ مُفَارَقَتِهِ لِأُنْسِ الْوَطَنِ وَاعْتِزَالِ الْأَهْلِ إِذَا قِيلَ إِنَّهُ حَدُّ التَّغْرِيبِ.وَالْوَجْهُ الثَّانِي: بَعْدَ مَسَافَةِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ إِذَا جُعِلَ حَدًّا لِلتَّغْرِيبِ فَصْلٌ: وَالْإِمَامُ فِي تَغْرِيبِهِ بَيْنَ أَمْرَيْنِ الزاني غير المحصن: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُعَيِّنَ عَلَى الْبَلَدِ الَّذِي يُغَرَّبُ إِلَيْهِ فَيَلْزَمُهُ الْمُقَامُ فِيهِ، وَلَا يَجُوزُ الْخُرُوجُ مِنْهُ، وَيَصِيرُ لَهُ كَالْحَبْسِ الَّذِي لَا يَجُوزُ أَنْ يَخْرُجَ مِنْهُ.وَالثَّانِي: أَنْ لَا يُعَيِّنَ لَهُ عَلَى الْبَلَدِ، فَيَجُوزُ لَهُ إِذَا تَجَاوَزَ مَسَافَةَ التَّغْرِيبِ أَنْ يُقِيمَ فِي أَيِّ بَلَدٍ مِنَ الْبِلَادِ شَاءَ، وَيَنْتَقِلُ إِلَى أَيِّ بَلَدٍ شَاءَ. فَإِذَا انْقَضَتْ مُدَّةُ التَّغْرِيبِ نَظَرَ: فَإِنْ كَانَ الْبَلَدُ الَّذِي غُرِّبَ إِلَيْهِ مُعَيَّنًا لَمْ يَعُدْ إِلَّا بِإِذْنِ الْإِمَامِ، فَإِنْ عَادَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ عُزِّرَ كَمَا يُعَزَّرُ إِذَا خَرَجَ مِنَ الْحَبْسِ بِغَيْرِ إِذْنٍ. وَإِنْ كَانَ الْبَلَدُ غَيْرُ مُعَيَّنٍ، جَازَ أَنْ يَعُودَ بِإِذْنٍ وَغَيْرِ إِذْنٍ، وَإِنْ كَانَ الْأَوْلَى أَنْ لَا يَعُودَ إِلَّا بِإِذْنٍ. فَإِنْ عَادَ إِلَى وَطَنِهِ قَبْلَ السَّنَةِ عُزِّرَ وَأُخْرِجَ. وَبَنَى عَلَى مَا تَقَدَّمَ قَبْلَ مُقَدَّمِهِ، وَلَمْ تُحْسَبْ مُدَّةُ مُقَامِهِ فِي وَطَنِهِ. وَلَوْ غَرَّبَ الْمَحْدُودُ نَفْسَهُ أَجْزَأَهُ، وَلَوْ جَلَدَ نَفْسَهُ الزاني الغير محصن لَمْ يُجْزِئْهُ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ الْحَدَّ حَقٌّ يُسْتَوْفَى مِنْهُ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ مُسْتَوْفِيهِ، وَالتَّغْرِيبُ انْتِقَالٌ إِلَى مَكَانٍ قَدْ وُجِدَ فِيهِ.فصل: وَيَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يُثْبِتَ فِي دِيوَانِهِ أَوَّلَ زَمَانِ تَغْرِيبِهِ الزاني الغير محصن: لِيَعْلَمَ بِإِثْبَاتِهِ اسْتِيفَاءَ حَدِّهِ. فَإِنْ لَمْ يُثْبِتْهُ وَادَّعَى الْمَحْدُودُ انْقِضَاءَ السَّنَةِ وَعَدِمَتِ الْبَيِّنَةُ فِيهِ، فَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُ الْمَحْدُودِ: لِأَنَّهُ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ الْمُسْتَرْعَاةِ، وَيَحْلِفُ اسْتِظْهَارًا. وَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ فِي زَمَانِ التَّغْرِيبِ مَا كَانَ يَلْزَمُهُ مِنْ نَفَقَاتِ زَوْجَاتِهِ وَأَوْلَادِهِ، وَتَنْقَضِي بِهِ مُدَّةُ الْإِيلَاءِ وَالْعُنَّةِ. وَإِنْ زَنَا فِي مُدَّةِ التَّغْرِيبِ حُدَّ وَغُرِّبَ عَنْ مَوْضِعِهِ عَامًا إِلَى مَسَافَةِ التَّغْرِيبِ، وَإِلَى جِهَةٍ يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ وَطَنِهِ مِثْلُ مَسَافَةِ التَّغْرِيبِ فَصَاعِدًا، وَتَكُونُ بَقِيَّةُ التَّغْرِيبِ الْأَوَّلِ دَاخِلًا فِي التَّغْرِيبِ الثَّانِي: لِأَنَّ حُدُودَ الزِّنَا تَتَدَاخَلُ فِي الِاسْتِيفَاءِ.فصل: وَإِنْ كَانَ الزَّانِي عَبْدًا أَوْ أَمَةً فَلَا رَجْمَ عَلَيْهِمَا، وَإِنْ أُحْصِنَا بِنِكَاحٍ: لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْحُرِّيَّةَ شَرْطٌ فِي الْإِحْصَانِ وَهِيَ مَعْدُومَةٌ فِيهِ.وَالثَّانِي: أَنَّ حَدَّهُ عَلَى النِّصْفِ مِنْ حَدِّ الْحُرِّ، وَالرَّجْمُ لَا يَنْتَصِفُ. وَإِذَا سَقَطَ الرَّجْمُ عَنْهُ، فَحَدُّهُ خَمْسُونَ جَلْدَةً وَهِيَ نِصْفُ حَدِّ الْحُرِّ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النِّسَاءِ: 25]. فَأَمَّا التَّغْرِيبُ للعبد الزاني فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ:أَحَدُهَا: يُغَرَّبُ سَنَةً كَالْحُرِّ، وَإِنْ خَالَفَ الْحُرَّ فِي الْجَلْدِ: لِأَنَّ مَا اعْتُبِرَ فِيهِ الْحَوْلُ لَمْ يَتَبَعَّضْ كَالزَّكَاةِ وَالْجِزْيَةِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا تَغْرِيبَ عَلَيْهِ بِوَجْهٍ: لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِضْرَارِ بِسَيِّدِهِ، وَأَنَّهُ فِي الْغُرْبَةِ أَرْفَهُ لِقِلَّةِ خِدْمَتِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ يُغَرَّبُ نِصْفَ سَنَةٍ، وَهَذَا أَصَحُّ: لِأَنَّ لَمَّا كَانَ التَّغْرِيبُ فِي الْحُرِّ تَبَعًا لِلْجَلْدِ ثُمَّ تَنَصَّفَ جَلْدُ الْعَبْدِ، وَجَبَ أَنْ يَنْتَصِفَ تَغْرِيبُهُ، وَسَوَاءٌ فِي هَذَا التَّغْرِيبِ أَنْ يَحُدَّهُ الْإِمَامُ أَوِ السَّيِّدُ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: إِنْ حَدَّهُ السَّيِّدُ لَمْ يُغَرِّبْهُ، وَإِنْ حَدَّهُ الْإِمَامُ غَرَّبَهُ. وَهَذَا الْفَرْقُ لَا وَجْهَ لَهُ: لِأَنَّ الْحَدَّ مُسْتَوْفًى فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى لَا فِي حَقِّ السَّيِّدِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَخْتَلِفَ بِاخْتِلَافِ مُسْتَوْفِيهِ كَالْجَلْدِ، وَحَّدُّ الْأَمَةِ كَالْعَبْدِ. وَكَذَلِكَ الْمُدَبَّرُ وَالْمَكَاتَبُ، وَمَنْ فِيهِ جُزْءٌ مِنَ الرِّقِّ وَإِنْ قَلَّ، كَحَدِّ الْعَبِيدِ كَمَا كَانُوا فِي النِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ وَالْعِدَّةِ كَالْعَبِيدِ. وَمَئُونَةُ التَّغْرِيبِ فِي بَيْتِ الْمَالِ، وَنَفَقَتُهُ فِي زَمَانِ التَّغْرِيبِ عَلَى السَّيِّدِ، فَإِنْ أَعْوَزَ بَيْتَ الْمَالِ فَمَئُونَةُ التَّغْرِيبِ عَلَى السَّيِّدِ كَالنَّفَقَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلَوْ أَقَرَّ مَرَّةً حُدَّ: لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ أُنَيْسًا أَنْ يَغْدُوَ عَلَى امْرَأَةٍ فَإِنِ اعْتَرَفَتْ رَجَمَهَا. وَأَمَرَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَبَا وَاقِدٍ اللَّيْثِيَّ بِمِثْلِ ذَلِكَ، وَلَمْ يَأْمُرَا بِعَدَدِ إِقْرَارِهِ. وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُقِيمَ الْإِمَامُ الْحُدُودَ وَإِنْ لَمْ يَحْضُرْهُ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْإِقْرَارِ الَّذِي يَجِبُ بِهِ حَدُّ الزِّنَا عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يَجِبُ بِإِقْرَارِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.وَالثَّانِي: وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ: أَنَّهُ لَا يَجِبُ إِلَّا بِإِقْرَارٍ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ فِي أَرْبَعَةِ مَجَالِسَ.وَالثَّالِثُ: وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى: لَا تَجِبُ إِلَّا بِإِقْرَارٍ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ سَوَاءٌ كَانَ فِي مَجْلِسٍ أَوْ فِي مَجَالِسَ: احْتِجَاجًا فِي اعْتِبَارِ الْأَرْبَعِ بِرِوَايَةِ أَبِي حَنِيفَةَ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: جَاءَ مَاعِزُ بْنُ مَالِكٍ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَقَرَّ بِالزِّنَا فَرَدَّهُ، ثُمَّ عَادَ فَأَقَرَّ بِالزِّنَا فَرَدَّهُ، ثُمَّ عَادَ فَأَقَرَّ بِالزِّنَا فَرَدَّهُ، ثُمَّ عَادَ رَابِعَةً فَأَقَرَّ بِالزِّنَا، فَسَأَلَ عَنْهُ قَوْمُهُ: هَلْ تُنْكِرُونَ مِنْ عَقْلِهِ شَيْئًا؟ قَالُوا: لَا. فَأَمَرَ بِهِ فَرُجِمَ فِي مَوْضِعٍ قَلِيلِ الْحِجَارَةِ، فَأَبْطَأَ عَلَيْهِ الْمَوْتُ، فَانْطَلَقَ يَسْعَى إِلَى مَوْضِعٍ كَثِيرِ الْحِجَارَةِ فَرَجَمُوهُ حَتَّى قُتِلَ فَلَّمَا أَمَرَ بِرَجْمِهِ فِي الرَّابِعَةِ دُونَ مَا تَقَدَّمَهَا دَلَّ عَلَى أَنَّهَا هِيَ الْمُوجِبَةُ لِرَجْمِهِ، وَأَنَّ الْأَرْبَعَ كُلَّهَا شُرُوطٌ فِيهِ. وَرَوَى عَامِرُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى، عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: أَقْبَلَ مَاعِزُ بْنُ مَالِكٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا جَالِسٌ عِنْدَهُ، حَتَّى جَلَسَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَأَقَرَّ عِنْدَهُ بِالزِّنَا، فَأَمَرَ بِطَرْدِهِ حَتَّى لَمْ يُرَ، ثُمَّ عَادَ فَجَلَسَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَأَقَرَّ عِنْدَهُ بِالزِّنَا، فَأَمَرَ بِطَرْدِهِ حَتَّى لَمْ يُرَ، ثُمَّ عَادَ فَجَلَسَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَأَقَرَّ عِنْدَهُ بِالزِّنَا، فَأَمَرَ بِطَرْدِهِ حَتَّى لَمْ يُرَ، ثُمَّ عَادَ الرَّابِعَةَ، قَالَ: فَنَهَضْتُ إِلَيْهِ فَقُلْتُ: يَا هَذَا إِنَّكَ إِنْ أَقْرَرْتَ عِنْدَهُ الرَّابِعَةَ رَجَمَكَ، قَالَ: فَجَاءَ حَتَّى جَلَسَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَأَقَرَّ عِنْدَهُ بِالزِّنَا فَأَمَرَ بِرَجْمِهِ. قَالُوا: فَقَدْ صَرَّحَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِمَشْهَدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ الرَّابِعَةَ هِيَ الْمُوجِبَةُ لِرَجْمِهِ فَأَقَرَّهُ، فَصَارَ كَقَوْلِهِ. قَالُوا: وَلِأَنَّهُ سَبَبٌ يُثْبِتُ حَدَّ الزِّنَا فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْعَدَدُ مِنْ شَرْطِهِ كَالشَّهَادَةِ، وَلِأَنَّ الزِّنَا لَمَّا غَلُظَ بِزِيَادَةِ الشَّهَادَةِ عَلَى سَائِرِ الشَّهَادَاتِ، وَجَبَ أَنْ يُغَلَّظَ بِزِيَادَةِ الْإِقْرَارِ عَلَى سَائِرِ الْإِقْرَارَاتِ. وَدَلِيلُنَا: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يَا أُنَيْسُ اغْدُ إِلَى امْرَأَةِ هَذَا فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا»، وَلَمْ يُوَقِّتْ لَهُ فِي اعْتِرَافِهَا أَرْبَعًا، فَغَدَا إِلَيْهَا فَاعْتَرَفَتْ فَرَجَمَهَا، وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهَا اعْتَرَفَتْ أَرْبَعًا، فَدَلَّ عَلَى ثُبُوتِهِ بِاعْتِرَافِ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ: لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُؤَخِّرَ بَيَانَهُ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ وَلَا يُبِيحُ رَجْمَهَا بِغَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ. وَلِأَنَّهُ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَلَا مُخَالِفَ لَهُمَا فِي الصَّحَابَةِ فَكَانَ إِجْمَاعًا. أَمَّا أَبُو بَكْرٍ فَأَقَرَّ رَجُلٌ بَكَّرَ عِنْدَهُ بِالزِّنَا فَجَلَدَهُ مِائَةً وَغَرَّبَهُ عَامًا. وَأَمَّا عُمَرُ فَإِنَّ رَجُلًا أَتَاهُ فَقَالَ: إِنِ امْرَأَتِي زَنَتْ فَأَنْفَذَ أَبَا وَاقِدٍ اللِّيثِيَّ إِلَيْهَا، فَقَالَ لَهَا: زَوْجُكِ قَدِ اعْتَرَفَ عَلَيْكِ بِالزِّنَا، وَإِنَّكِ لَا تُؤَاخَذِينَ بِقَوْلِهِ: لِتَنْزِعَ، فَلَمْ تَنْزِعْ، فَأَمَرَ عُمَرُ بِرَجْمِهَا. وَمِنَ الْقِيَاسِ: أَنَّ مَا ثَبَتَ بِالْإِقْرَارِ لَمْ يُعْتَبَرْ فِيهِ التَّكْرَارُ كَسَائِرِ الْحُدُودِ وَالْحُقُوقِ، وَلِأَنَّ مَا لَمْ يَلْزَمْ فِيهِ تَكْرَارُ الْإِنْكَارِ لَمْ يَلْزَمْ فِيهِ تَكْرَارُ الْإِقْرَارِ كَسَائِرِ الْحُدُودِ، وَلِأَنَّ رَجُلًا لَوْ قَذَفَ رَجُلًا بِالزِّنَا وَوَجَبَ عَلَيْهِ حَدُّ قَذْفِهِ فَاعْتَرَفَ الْمَقْذُوفُ مَرَّةً وَاحِدَةً صَارَ كَالْمُقِرِّ بِهِ أَرْبَعًا فِي سُقُوطِ الْحَدِّ عَنْ قَاذِفِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَصِيرَ كَالْأَرْبَعِ فِي وُجُوبِ الْحَدِّ بِهِ: لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَصِيرَ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ زَانِيًا وَفِي بَعْضِهَا غَيْرَ زَانٍ، وَلِأَنَّهُ إِقْرَارٌ ثَبَتَ بِهِ حَدُّ الْقَذْفِ فَوَجَبَ أَنْ يُثْبِتَ بِهِ حَدُّ الزِّنَا كَالْأَرْبَعِ. وَلِأَنَّ الْحُقُوقَ ضَرْبَانِ: حَقُّ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَحَقٌّ لِلْآدَمِيِّ. وَلَيْسَ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا يُعْتَبَرُ فِي الْإِقْرَارِ بِهِ التَّكْرَارُ، فَكَانَ حَدُّ الزِّنَا مُلْحَقًا بِأَحَدِهِمَا، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَخْرُجَ عَنْهُمَا. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ مَاعِزٍ فِي إِقْرَارِهِ أَرْبَعًا، فَمِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: هُوَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَقَّفَ عَنْ رَجْمِهِ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى اسْتِثْبَاتًا لِحَالِهِ وَاسْتِرَابَةً لِجُنُونِهِ: لِأَنَّهُ كَانَ قَصِيرًا أَعْضَدَ أَحْمَرَ الْعَيْنَيْنِ نَاثِرَ الشِّعْرِ، أَقْبَلَ حَاسِرًا فَطَرَدَهُ تَصَوُّرًا لِجُنُونِهِ، وَأَنَّ الْعَاقِلَ لَا يَفْضَحُ نَفْسَهُ وَيُتْلِفُهَا، وَقَدْ قَالَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَتَى مِنْ هَذِهِ الْقَاذُورَاتِ شَيْئًا فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللَّهِ، فَإِنَّهُ مَنْ يُبِدِ لَنَا صَفْحَتَهُ نُقِمْ حَدَّ اللَّهِ عَلَيْهِ وَلِذَلِكَ سَأَلَ قَوْمَهُ عَنْ حَالِهِ، وَقَالَ: أَبَهَ جِنَّةٌ؟ وَقَالَ: اسْتَنْكِهُوهُ. لِأَنَّهُ تَوَهَّمَهُ حِينَ لَمْ يَرَ بِهِ جِنَّةً أَنْ يَكُونَ سَكْرَانَ.وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْأَرْبَعُ مُعْتَبَرًا لَكَانَ الْأَوَّلُ مُؤَثِّرًا، وَلَمَا اسْتَجَازَ أَنْ يَطْرُدَهُ، وَقَدْ تَعَلَّقَ بِهِ لِلَّهِ تَعَالَى حَقٌّ.وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ رَجَمَهُ بَعْدَ أَنِ اسْتَثْبَتَهُ فِي الْخَامِسَةِ، وَقَالَ: «لَعَلَّكَ قَبَّلْتَ لَعَلَّكَ لَمَسْتَ؟» قَالَ: بَلْ جَامَعْتُهَا، قَالَ: «أَوْلَجْتَ ذَكَرَكَ فِي فَرْجِهَا، كَالْمِرْوَدِ فِي الْمُكْحُلَةِ وَالرِّشَا فِي الْبِئْرِ؟» قَالَ: نَعَمْ. فَأَقَرَّ بِرَجْمِهِ فِي الْخَامِسَةِ، وَلَيْسَتْ شَرْطًا بِإِجْمَاعٍ، فَكَذَلِكَ مَا تَقَدَّمَهَا.وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ خَبَرٌ خَالَفَ الْأُصُولَ، وَخَبَرُ الْوَاحِدِ عِنْدَهُمْ إِذَا خَالَفَ الْأُصُولَ لَمْ يُعْمَلْ بِهِ، وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّكَ إِنْ أَقْرَرْتَ الرَّابِعَةَ رَجَمَكَ فَلِأَنَّ حَالَهُ قَدْ وَضَحَتْ، وَالِاسْتِرَابَةُ قَدِ ارْتَفَعَتْ، فَصَارَتِ الرَّابِعَةُ هِيَ الْمُوجِبَةُ لِزَوَالِ الِاسْتِرَابَةِ، وَلَمْ تَكُنْ لِاسْتِكْمَالِ الْعَدَدِ: لِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَدْ جَلَدَ فِي أَيَّامِهِ وَلَمْ يَعْتَبِرْ عَدَدًا. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الشَّهَادَةِ: فَهُوَ أَنَّ الْمَعْنَى فِيهَا أَنَّهُ لَمَّا اعْتُبِرَ فِيهَا الْعَدَدُ فِي غَيْرِ الزِّنَا اعْتُبِرَ فِي الزِّنَا، وَلَمَّا لَمْ يُعْتَبَرِ الْعَدَدُ فِي الْإِقْرَارِ بِغَيْرِ الزِّنَا لَمْ يُعْتَبَرْ فِي الْإِقْرَارِ بِالزِّنَا. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِزِيَادَةِ الشَّهَادَةِ فِيهِ تَغْلِيظًا: فَهُوَ أَنَّ الشَّهَادَةَ قَدْ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْحُقُوقِ، وَلَا تُوجِبُ اخْتِلَافَ الْإِقْرَارِ بِهَا، فَكَذَلِكَ فِي الزِّنَا.
|